العمل الابداعي يعني
القدرة على التعبير والابتكار والتصوير الذي يحقق وجوده ووجده ويؤسس فضاءات عوالمه
الحالمة، كي يحقق المتعة والمنفعة لذات المتلقي (المستهلك).
و (حاموت) الرواية التي نسجت عوالمها انامل
الروائية والقاصة والشاعرة المغتربة وفاء عبدالرزاق ببنيتها المورفولوجية التي
تشكلت من خمسة عشر فصلا تحمل عنوانات رقمية باستطلاع التجربة الحياتية التي تكشف
عن الوان قيمية متعددة عبر المعطيات المضمونية التي تحققت بالفعل الانساني. واهداء الى (تلك العلامة التي لم تصل لذاتها..) وهي
تبتعد عن الانشائية بمزج جماليات اللغة والتجربة الوجدانية.
(بيوت تنهار. حرائق ونيران تلتهم كل شيء. احسست
بنفسي جزءا من هذا الحشد.. لم اكن محصنا مثلهم. كانوا يضعون الخوذ على رؤوسهم
ويركضون. سيارات الاسعاف تطوف الشوارع. سيارات نقل الجثث تملأ المكان. لم اشعر
بانني موجود او اقف على ارض ما اعرفه انني على ارض (حاموت) لكن اين انا الان. قريب من نار تلتهم الاخضر واليابس. قريب من
اكوام الجثث وقريب من عواء كلاب تلعق بقايا عظام محروقة.)
فالنص ينفلت من منطقة الظل ليعلن حضوره المشع
عبر الحاضر الراهن والحاضر الذاكرة
والحاضر الهاجس حضورا والذي يؤطر المتن
الروائي.. اذ الحاضر زمن متداخل تصوغه الاحداث على حد تعبير افلاطون..
(وددت لو اعود الى ما كنت عليه قبل حضور هذا
الغريب. ان ارى شكلي كيف اصبح بعد هول ما رايت. ان احرك لساني ربما يفوه بكلمة
ترشدني الى واقعي الحقيقي. كل شيء اصبح بعيدا عني..كل شيء حتى ذاتي وهويتي..كل شيء
يبحث عن شيء ولا شيء. الجميع في (حاموت)شارد الذهن.)
فالسرد ابتداءا من عتبته العنوانية (حاموت)،الايقونة
الدالة على قصدية يكشف عنها السياق، فهو
المدينة الظلامية التي تنتهي اليها معظم الاحداث التي تشعر متلقيها انه اما رواية
سيرة مدينة او سيرة شخصية ترقى الى رمز ادبي يشكل محور الحدث، فضلا عن انها تحمل
في طياتها الدهشة والتساؤل مع تنوع يجر متلقيها صوب ادب الرحلات والمغامرة. انه استعارة
رمزية للتجربة الانسانية المازومة، كون (حاموت) المدينة الكونية الموت فيها قامع
للحياة، لذا فهو(مجرد وعاء مهجور او ناي صامت يحترق بعاطفة جياشة..) على حد تعبير
الراوي العليم باشارته الاهدائية والعنوانات الرقمية بفصولها التي توحي بغرابة
الاحداث والشخصيات والرؤى فضلا عن انها تبدأ من نقطة الحبكة وتقنية التذكر عبر
احداث ارتجاعية تحكي التجربة الحياتية الاولى.
(محمد، هو اسمي في شهادة
الميلاد..انما خالتي كانت تناديني بـ(عارف). لست ادري لم يحلو لها ذلك؟ واي عارف
لا يعرف أي شيء عن اطلالته الحقيقية على الدنيا..)
فالسرد يبدأ بحدث استرجاعي تعريفي يعتمده
الراوي السارد ضمن السياق الكلي المرتبط ومرجعية النص كونه مشتملا على عناصر
الخطاب، فهو يجمع ما بين العجائبي.. الاســتثنائي والواقــعي ..فضــلا عن انه
يــرقى برمــزيته لاستيعاب الواقع المعاصر بمزج سردي يحتضن الشعري والدرامي.
فالراوي السارد ينطلق من زمكانية مغايرة وهو
يمزج الخيال بالتاريخ ويوظف الحدث الملاحق للحقائق الوجودية. اضافة الى مزج السرد
بالحوار والاتكاء على الحكاية والوصف من اجل التأكيد على واقعية الحدث وعمق
التجربة ووعي الذاكرة.
(تصاعدت الحمى مثل كهرباء تدب في جسدي
كله..حملت الصحيفة تحت ابطي واقفلت راجعا الى الدار.. في طريق عودتي اقبل نحوي
جاري السابع يدعوني لحفل زواج ابنه البكر..بكل سرور كان ردي فاترا والنار تسعر
داخلي.. في بابهم كانت ثلاث بصمات واعرف ان له ثلاثة ابناء..لست ادري كيف او
متى..لكن ما ادركه ان الموت سيخيم عليهم لحظة ما..)
فالبوح يشكل نصا وجدانيا يمتاز بسهولة
التعابير وانسياب الالفاظ، فهو خلية مستأصلة من نسيج اجتماعي في مرحلة زمنية وفقا
لما تقتضيه فلسفة البقاء وتعزيز الانا كقيمة ايجابية في المجتمع، لذا فالنص يخاطب
الوجدان في رحلة الحياة ومحطاتها بلغة تخلق جوا من التفاعل اللاشعوري بين المتلقي
والعبارة.
وهذا يعني ان السرد يسير
بخطين مترابطين هما: الوصف التصويري وتجسيد الخيال.
(انخرطت في نقل مزيد من
حديثه وانخرط هو في صمت ازعجني. قلت له: بدأ النور يشق طريقه. هيا اكمل حتى اقوم
لاعداد فطور لنا مع شاي ساخن كما يحلو لك تناوله ساخنا بالنعناع..نكمل عن العاشقين
حسنا.
شابة من (حاموت) من اجمل
شبابها واطهرها عشقا. لم يمسهما السوء والفاحشة. كان عشقا طاهرا نقيا. ونادرا
لعمقه وتلاحمهما كروح واحدة في جسدين. عيناها كانهما رغيفان لكل فرد في (حاموت) ووجهها
الابيض الجميل اناء يسقي عطش قلوبكم المتصحرة ووسامة جبينها تبهر القلوب المتحجرة.
لم تدمرهما الحروب او السيارات الماجورة من حاقدين على (حاموت) بل دمرها اهلها.)
فالبناء السردي الذي اعتمدته الساردة تميز
بالقدرة على تحليل نفسيات الشخوص وتماسك الافكار وترابط النسيج الداخلي للنص فضلا
عن تصوير المشاهد والانتقالات عبر فضاءات متباينة. فحققت وجودا في تصوير الفوضى
التي تضرب عمق الانسان في ذاته ووجدانه بفضل تمثيلها البحث عن الاسطورة الشخصية
على حد تعبير باولو كويلر. فالرواية لا تعيد انتاج التاريخ بل تستعيده. فتقدم
افكارا وصروحا درامية لتاريخ انساني متداع تنسج
خيوطه ساردة تركز على فلسفة المعري في تقسيم البشر الى (اوغاد مستنيرين او
حمقى متدينين) عبرالذاكرة التي تلعب دورا محوريا في بناء الاحداث، اذ ان عملية
الذهاب الى الماضي من اجل القبض على تفاصيله واسترجاعها جاءت لتضيء احداث الحاضر
التي يرصدها السرد بتحولات انسانية ورؤى روحية تواصلية في حياة الوجود البشري عبر
نسيج علاقاتها الاجتماعية والزمكانية المتباعدة واجواء تحكمها شخصيات متفاوتة
الفكر والثقافة والتفكير الاجتماعي بلغة حازت على سياق جمالي شعري مع تماسك بنائها
وتركيبها، فالسارد الراوي يضع جملة الافتتاح للتعبير عن الوجود حين يقول(محمد هــو
اسمي في شــهادة المــيلاد وان خالتي باتت تنــاديــني بـ(عارف) للتعبير عن كون
الاسم له دلالته المقترنة بالمكان والوجود، فهو يكشف عن قلق الذات والمكان المنتج
للفعل، وهذا القلق متصل بقلق معرفي خلاق، لذا فاسماء الشخوص(محمد/ عبود/ عزيز/مكي/
جليل/ جابر/ اشرف..) كانت مدروسة بدقة كونها نوع من الرمز البلاغي المرتبط بالواقع،
فضلا عن توظيف ضمير الغائب لمرونة التحرك به بين اروقة الماضي. هذا يعني ان
الروائية اتقنت نسيج السرد بمهارة توحي بتراكيب ابداعية قادرة على التشكيل. فكان
نحت العبارة عندها مشحونا بعناصر التشويق مع دقة اضفت على النص الحركة والتنامي
حتى النهاية المفتوحة كونها تترك المجال لمخيلة المتلقي كي يسهم في السرد الذي
يعتمد (الخارج المكاني) باعتبار الساردة تختفي بشخصية محمد الرمز و(الخارج
الزماني)باعتبار السارده لا ينتمي الى تلك الحقبة الزمنية الا من خلال المرويات
والمرجعيات.
هذا يعني ان الرواية تشكل تجربة تاريخية
عميقة امتزجت في نسيج سردي عبر لغة فنية بعيدة عن التقعر ومضمون جريء باسلوب شعري
يحتضن اجواءها. وهي تتضمن اصالة البناء وصدق الاحساس من خلال احتضانها المواقف
الانسانية والفكرية في سلوك وحوارات الشخوص النابضة بالحياة والقهر. هذا يعني ان
السرد يتكيء على ركنين متوازيين هما(الحدث والشخصية). وبذلك كانت(حاموت) سردا جمعيا للمكان والانسان
بتعبير جمالي شاعري يحرك الخزانة الفكرية للمتلقي من خلال الاحداث التي تجري فيها،
كونها المكان الذي تحتله الاقنعة التي تعيق الانسان وتجرده من انسانيته فضلا عن
انها تحاكي الذات الانسانية وتناقضاتها من خلال سرد الاحداث التي تؤسس اسئلة
وجودية لتجر المتلقي للغوص في ابعد التعابير الرامزة والكشف عن دلالاتها، وهي تفضح
الهيمنة الخارجية التي تحدد معالمها على المستوى الاجتماعي والثقافي من خلال سردية
اقرب الى الخيال منها الى الواقع، لكنها تعبر عن الواقع الانساني المتناقض
والمتصارع في ذاته فتكشف عن قدرة على التغلغل في عنق الذات الانسانية وابراز
خفاياها ورغبتها في تغيير معالمها بتوظيف لغة بعيدة عن التقريرية المباشرة مع تنوع
تقنيات السرد(استرجاع /حوار بنوعيه(ذاتي منولوجي )و(موضوعي واقعي)../زمكانية
/شخوص.....)
مجلة أبحاث أدبية \ العدد الاول \ خريف 2017.